التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
من هم أصدقاء الدولة العثمانية في عهد الانهيار الخفي؟ وماذا تعرف عنهم؟
أصدقاء الدولة العثمانية في عهد الانهيار الخفي
أحسب أن الدولة العثمانية لم تعرف في تاريخها الصداقة الحقيقيَّة لدولةٍ من الدول! هذه في رأيي حقيقةٌ تاريخيَّة! قد يرجع ذلك إلى طبيعتها التوسُّعيَّة التي تُخيف الدول والإمبراطوريَّات منها، وقد يرجع ذلك إلى ظروف وجودها بين مجتمعاتٍ نصرانيَّةٍ في الغرب، وشيعيَّةٍ في الشرق، وقد يرجع ذلك إلى ضعف الدبلوماسيَّة التركيَّة التي تعتمد على القوَّة والإرغام لا على التفاهم والوئام، وقد يرجع ذلك إلى عوامل أخرى، لكن في كلِّ الأحوال تبقى الحقيقة المـُرَّة: لا صديق للعثمانيين! هذا الكلام القاسي يشمل المسلمين أيضًا؛ فالدولة العثمانية لم يكن لها معينٌ من المسلمين قط، وقد يكون هذا بسبب تعدِّيها أيَّام سليم الأول على دولة المماليك المسلمة، ممَّا أثار الشكوك في نواياها التوسُّعيَّة في بلاد المسلمين أنفسهم، وقد تأكَّدت هذه الشكوك بغزو العثمانيين لليمن بعد ذلك، و-أيضًا- كان المسلمون في الهند يخشون التوسُّع العثماني في بلادهم ممَّا جعلهم لا يتحمَّسون للمساعدة العثمانية لهم ضدَّ البرتغاليِّين، مع أن مسلمي الهند هم الذين طلبوا العثمانيين.
نقول هذا الكلام كمقدِّمة لحديثنا عن صداقات الدولة العثمانية في هذه الحقبة. ستنقل الكتب تحالفات مع بريطانيا تارة، ومع فرنسا تارةً أخرى، ولكنَّنا فهمنا من السطور السابقة أن هذه تحالفاتٌ وهميَّةٌ لا معنى لها، وليس من ورائها إلا تحقيق المصالح الآنيَّة، التي سرعان ما تتغيَّر. الصديق الوحيد النسبي الذي استمرَّت صداقته في هذا الجزء المتبقِّي من عمر الدولة العثمانية كان مملكة بروسيا، التي ستتحوَّل في عام 1871م إلى دولة ألمانيا الموحَّدة، التي ستُبْقِي بعد ذلك على صداقتها مع العثمانيين.
السِّرُّ في بقاء هذه الصداقة طوال هذه المدَّة هو العداء الكبير الذي كان بين بروسيا، ثم ألمانيا، وبين معظم القوى الأوروبية، والذي سيدفعها إلى التحالف مع صديقٍ مأمون -أي الدولة العثمانية- التي تُعادي بطبيعة الحال روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والنمسا، ومن هنا كانت «المصلحة» الألمانيَّة متَّفقةً مع «المصلحة» العثمانية فطالت الصداقة لذلك.
كانت بروسيا من القوى المهمَّة في أوروبا، وكانت سببًا في تحقيق التوازن بين القوى المختلفة، وستزداد قوَّة بروسيا مع الوقت حيث ستقود عدَّة حروبٍ بدايةً من عام 1848م بغية توحيد الإمارات الألمانيَّة كلِّها تحت قيادتها، وستقود حربها الأخيرة ضدَّ النمسا في عامي 1870م و1871م إلى قيام دولة ألمانيا تحت الزعامة البروسية، التي ستشمل كلَّ الولايات الألمانيَّة باستثناء النمسا، كما ستشمل أجزاء من الدنمارك، وبولندا، وليتوانيا، وروسيا، وستستمر هذه الدولة الكبرى إلى عام 1918م؛ أي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.
أحداث عالمية مهمة في عهد الانهيار الخفي
لا شَكَّ أنه في هذا الزمن المتسارع كانت هناك أحداثٌ كثيرةٌ في الدنيا تستحقُّ التوقُّف والنظر، غير أننا سنُعْرِض عن معظمها، ونكتفي فقط بالتعليق على حدثين فرنسيَّين لهما علاقة بقصة الدولة العثمانية، سواءٌ بشكلٍ مباشرٍ أم غير مباشر. هذان الحدثان هما الثورة الفرنسية، والحروب النابوليونيَّة.
أولًا: الثورة الفرنسية:
تعتبر الثورة الفرنسية French Revolution أحد أهم الأحداث في تاريخ البشريَّة[1]، ليس لآثارها على فرنسا وحدها، ولكن لتعدُّد آثارها على العالم أجمع، وليست هذه الآثار في مجال السياسة فقط، إنما شملت مجالات كثيرة؛ دينيَّة، واجتماعيَّة، واقتصاديَّة، وفكريَّة، وغير ذلك.
أسباب الثورة الفرنسية معقَّدة وكثيرة، وخلاصتها وصول الشعب إلى حالةٍ كبيرةٍ من الاحتقان، نتيجة الأزمة الاقتصاديَّة الناجمة عن الديون المتراكمة على الدولة بعد حرب السنوات السبع، وحرب الاستقلال الأميركية، بالإضافة إلى القحط المتزامن مع هذه الأحداث نتيجة سوء الأحوال الجوِّيَّة. -أيضًا- يُضاف إلى ذلك سوء إدارة الملك لويس السادس عشر Louis XVI للدولة، والبذخ الشديد، وعدَّة أفكار تنويريَّة سبقت الثورة بعقود، مع سخط الشعب لزيادة امتيازات النبلاء ورجال الدين.
قامت الثورة الشعبية بلا قائد في مايو 1789م، واقتُحم سجن الباستيل الشهير، وهو رمز للملكيَّة الفرنسيَّة، في 14 يوليو 1789م (العيد القومي لفرنسا)، وأُعلنت حقوق الإنسان، وأُلغي الإقطاع وامتيازات النبلاء، في أغسطس من السنة نفسها. دارت صراعاتٌ كثيرةٌ في فرنسا بين أنصار الثورة وأنصار الملكيَّة انتهت بإعلان الجمهوريَّة الفرنسيَّة في 1792م، وإعدام لويس السادس عشر في يناير 1793م. أدَّى التحريض الشعبي إلى صعود ماكسمليان روبسبير Maximilien Robespierre إلى الحكم، وقيامه خلال سنة واحدة فقط (يوليو 1793م-يوليو 1794م) بعددٍ كبيرٍ من الإعدامات بمحاكم ثوريَّة متسرِّعة، أدَّت إلى قتل ما بين ستَّة عشر وأربعين ألفًا من المعارضين، فيما عُرِف بعهد الإرهاب في فرنسا.
بعد هذا العهد الدموي تولى حكم فرنسا في عام 1795م مجلس يُسَمَّى مجلس المديرين، والذي اتَّسم عهده بعدم الاستقرار الداخلي، واضطهاد رجال الدين، كما اتُّهم أفراده بالفساد المالي. لم تكن المحاكمات الظالمة هي فقط السبب في الموت، بل فَقَدَ أكثر من أربعمائة ألف فرنسي أرواحهم في الحرب الأهليَّة الدائرة في البلاد بين أنصار الملكيَّة والجمهوريَّة، وذلك في الفترة من 1793م إلى 1796م! -أيضًا- في هذه الفترة حاربت معظمُ الدول الأوروبية، كالنمسا وبروسيا وهولندا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، الجمهوريَّةَ الفرنسيَّة؛ وذلك لخشية هذه الدول من انتهاء الملكيَّة في بلادها، ولكن انتصرت فرنسا في معظم هذه المعارك، بفضل العبقريَّة العسكريَّة لقائدها الموهوب نابليون بونابرت Napoleon Bonaparte. تزعَّم بونابرت انقلابًا على حكومة المديرين في عام 1799م، ليؤسِّس حكومة القناصل، وبعدها الإمبراطوريَّة الفرنسيَّة عام 1804م، وليُصبح هو إمبراطورها الأوَّل تحت اسم نابليون الأول Napoleon I.
صدَّرت الثورة الفرنسية أفكارها إلى العالم أجمع. كانت بدايةَ ثوراتٍ عديدةٍ على السلالات الملكيَّة في العالم، ومِنْ ثَمَّ قيام «الجمهوريَّات» على نطاقٍ واسع. رسَّخت كذلك الثورة الفرنسية مفهوم «القوميَّة»، ممَّا شجَّع الدول المندرجة تحت الإمبراطوريَّات على التحرُّر لتكوين دولٍ قوميَّةٍ خاصَّةٍ بها (ومنها الدول المندرجة تحت حكم العثمانيين). -أيضًا- دعمت الثورة الفرنسية الحرب ضدَّ رجال الدين، وانتهجت «العلمانيَّة» كمبدأ، وفصلت الدين تمامًا عن الدولة، وبذلك أقصت الكنيسة بشكلٍ جذريٍّ عن حياة الشعب. ومع أن الثورة الفرنسية كانت تُنادي بالحرِّيَّة، والمساواة، والإخاء، إلا أن الحكومات الناتجة عن هذه الثورة قادت عدَّة اجتياحات بشعة في إفريقيا والعالم في خلال القرن التاسع عشر والعشرين أدَّت إلى استعباد عددٍ كبيرٍ من الشعوب، وإزهاق أرواح الملايين، واستنزاف مقدَّرَات أممٍ كاملة.
يمكن مراجعة تفاصيل هذه الثورة المهمَّة في عددٍ كبيرٍ من الكتب المتخصِّصة التي فصَّلت في أحداثها الكثيرة، وفي مقدِّمتها كتاب «الثورة الفرنسية» للمؤرِّخ الفرنسي چورچ ليفبر Georges Lefebvre، وهو من أكبر المتخصِّصين في تاريخ الثورة الفرنسية، والكتاب من جزئين؛ الأوَّل من بداية الثورة إلى عام 1793م[2]، والثاني من عام 1793م إلى عام 1799م[3]. -أيضًا- يمكن قراءة كتاب «تاريخ أكسفورد للثورة الفرنسيَّة» للمؤرِّخ الإنجليزي وليام دويل William Doyle[4]، وهو -أيضًا- من المتخصِّصين الكبار في تاريخ فرنسا في القرن الثامن عشر، وكتابه هذا من أشهر كتب الثورة الفرنسية.
ثانيًا: الحروب النابوليونية (1803-1815م):
يُعدُّ نابليون أحد أبرز القادة العسكريِّين في التاريخ، كما أنه من رجال السياسة المعدودين، وإليه يُنْسب القانون الفرنسي الذي صار نموذجًا لمعظم قوانين العالم بعد ذلك. تولى نابليون حكم فرنسا عام 1799م كالقنصل الأول من ثلاثة قناصل، ثم انفرد بالحكم بعد ذلك وأسَّس الإمبراطوريَّة الفرنسيَّة عام 1804. في خلال الفترة من 1803م إلى 1815م قاد عدَّة حروب ضخمة في أوروبا عرفت بالحروب النابوليونية Napoleonic Wars، كانت له الغلبة على أعدائه في معظمها.
في كلِّ هذه الحروب لم تقوَ دولة أوروبية على حرب نابليون بمفردها؛ إنما كانوا ينظمون تحالفات كبرى وصلت إلى سبع تحالفات متتابعة، كانت تُمَوَّل في الأساس من بريطانيا، بالإضافة إلى النمسا، وبروسيا، وغيرها من الدول. حقَّق نابليون أعظم انتصاراته على التحالف الثالث المكوَّن أساسًا من روسيا والإمبراطورية الرومانية المقدَّسة (النمسا)، وذلك في معركة أوسترليتز Austerlitz (في التشيك الآن) في ديسمبر 1805م. هذه المعركة أدَّت إلى تحلُّل الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة بعد أكثر من ثمانية قرون من تأسيسها (962-1806م).
في خلال هذه الحروب -أيضًا- احتل نابليون عدَّة دولٍ في أوروبا تشمل البرتغال عام 1807م، وإسبانيا عام 1808م. في نهاية المطاف دفع الغرورُ نابليون إلى اقتحام روسيا بجيشه العملاق المكوَّن من 650 ألف مقاتل في عام 1812م، ومع أنه حقَّق النصر، ودخل موسكو، إلا أنه فَقَد معظم جيشه بسبب الحرب والبرد. أقل تقديرٍ لعدد القتلى والمفقودين في جيش نابليون يتجاوز الأربعمائة ألف جندي! كانت هذه نقطة تحوُّلٍ ولم يستطع الجيش الفرنسي أن يستردَّ عافيته بعد ذلك.
في سنة 1813م، هُزِم نابليون من التحالف الأوروبي السادس المكوَّن من روسيا، وبروسيا، والنمسا، والسويد، وذلك في معركة لايبزج Leipzig، والمعروفة -أيضًا- بمعركة الأمم Battle of the Nations. في 1814م اجتاحت قوَّات التحالف السادس فرنسا، ودخلت باريس، وأجبرت نابليون على التنازل عن العرش في أوائل أبريل، ونُفِي إلى جزيرة إلبا Elba الإيطاليَّة. هرب بونابرت من منفاه بعد أقلَّ من سنة، وعاد ليتربَّع على عرش فرنسا في فبراير 1815م. استجاب الأوروبيون بتكوين التحالف السابع المكوَّن أساسًا من بريطانيا، وبروسيا، وهولندا، الذي حقَّق نصرًا نهائيًّا على نابليون في معركة واترلو Waterloo الشهيرة (في بلچيكا الآن) في 18 يونيو 1815م، وبعدها نُفِيَ بونابرت إلى جزيرة سانت هيلانة St Helena، جنوب المحيط الأطلنطي، ليموت بعد ستِّ سنواتٍ من النفي.
كان نابليون بونابرت -في رأيي- طاغيةً مدمِّر ارتكب كثيرًا من المذابح غير الضروريَّة، وحقَّق أمجادًا شخصيَّة لحظيَّة على حساب أرواح البشر، بل على حساب أمَّته وقومه، فقد جلب لها الخراب الكبير بعد المجد القصير! اقتربت ضحايا الحروب النابوليونية من ستَّة ملايين قتيل، من العسكريِّين والمدنيِّين، وفقدت فرنسا مكانتها المرموقة التي حقَّقتها أيام نابليون، وتصدَّرت بريطانيا المشهد العالمي دون منازع. يقول المؤرِّخ الأميركي ڤيكتور هانسون Victor Hanson تعليقًا على حروب نابليون المدمِّرة: «بعد هذه الأمجاد العسكريَّة غير القابلة للنقاش، وبعد سبعة عشر عامًا من الحروب، فقدت أوروبا حوالي ستَّة ملايين قتيل، وأفلست فرنسا، وفقدت مستعمراتها العالميَّة»[5]!
عقد الحلفاء مؤتمر ڤيينا Congress of Vienna في يونيو 1815م، وفيه رسموا الحدود في أوروبا من جديد بعد اضمحلال القوَّة الفرنسيَّة. يمكن القول إن هذا المؤتمر حفظ السلام بشكلٍ كبيرٍ في أوروبا لمدَّة قرنٍ كامل، أي إلى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م.
يُعتبر نابليون بونابرت من أكثر الشخصيَّات العالميَّة التي اهتمَّ المؤرِّخون بكتابة قصته، وتحليل سيرته، ولمعرفة تفاصيل أكثر عن حياته يمكن قراءة كتاب «حملات نابليون» للمؤرِّخ الإنجليزي الكبير ديڤيد تشاندلر David Chandler[6]، وكتاب «حياة نابليون» للمؤرِّخ الإنجليزي -أيضًا- أندرو روبرت Andrew Roberts[7].[8].
[1] Palmer, Robert Roswell & Colton, Joel: A History of the Modern World, Fifth edition, Knopf, New York, USA, 1978., p. 341.
[2] Lefebvre, Georges: The French Revolution: From Its Origins to 1793, Columbia University Press, New York, USA, 1962., vol. 1.
[3]Lefebvre, Georges: The French Revolution: from 1793 to 1799, Columbia University Press, New York, USA, 1962., vol. 2.
[4] Doyle, William: The Oxford History of the French Revolution, Oxford University Press, Oxford, UK, 2002..
[5] Hanson, Victor Davis: The Little Tyrant, A review of Napoleon: A Penguin Life, The Claremont Institute, Upland, California, USA, Vol. 3, No. 3, 2003..
[6] Chandler, David G.: The Campaigns of Napoleon, Simon and Schuster, 2009..
[7] Roberts, Andrew: Napoleon: A Life, Penguin group, London, UK, 2014.
[8] كتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 891- 896.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك